رؤية شرعية حول تعديلات مدونة الأسرة الجديدة الجزء الثاني / محمد أمرير الاسوري

الحمد لله الذي أرسى العدل والإنصاف في شرائعه، وأحكم أحكامه بما يضمن الخير والصلاح للعباد، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ المبعوث رحمةً للعالمين، المبلغ عن ربه أكمل الشرائع، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
التعديل الذي سنقف معه في هذا المقال ان شاء الله هو قولهم :
ان النفقة تلزم الزوج بمجرد العقد
نقول و بالله نستعين ـ
من أبرز حقوق الزوجة على زوجها تأمين النفقة لها، وتُعدّ النفقة من أعظم الأعمال التي تقرب تعالى إلى الله . وتشمل النفقة توفير الطعام والشراب والملبس والمسكن، وكل ما يلزم الزوجة للحفاظ على صحتها وحياتها بشكل كريم. وقد دل على وجوب هذه النفقة : الكتاب والسنة الصحيحة وإجماع أهل العلم .
قال تعالى ” وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ” [البقرة: 233]. و على تفيد الوجوب عند علماء الأصول كما هو معروف
و قال تعالى ” ﴿ لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾
[ سورة الطلاق: 7] و هذا أمر من الله تعالى للزوج أن ينفق على حسب قدرته .
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع : ” اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ، أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولهن عليكم رزقهن ، وكسوتهن بالمعروف ” رواه مسلم 8/183 .
عن عمرو بن الأحوص رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حجة الوداع : ” أَلا وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّمَا هُنَّ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ لَيْسَ تَمْلِكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ فَإِنْ فَعَلْنَ فَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ حَقًّا وَلِنِسَائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا فَأَمَّا حَقُّكُمْ عَلَى نِسَائِكُمْ فَلا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَ وَلا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِمَنْ تَكْرَهُونَ أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ . ” وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَوَانٌ عِنْدَكُمْ يَعْنِي أَسْرَى فِي أَيْدِيكُمْ . رواه الترمذي 1163 وابن ماجة 1851 وقال الترمذي هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ .
عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه قال : قلت : يا رسول الله ، ما حق زوجة أحدنا علينا ؟ قال : أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تقبح الوجه ، ولا تضرب ” رواه أبو داود 2/244 وابن ماجه 1850 وأحمد 4/446 .
قال الخطابي : في هذا إيجاب النفقة والكسوة لها ، وهو على قدر وسع الزوج .
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت ” رواه أحمد 2/160 وأبو داود 1692 .
وأصله في مسلم 245 بلفظ : ” كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته ” .
و الأحاديث في هذا الباب كثيرة .
قال الإمام الموفق ابن قدامة رحمه الله في المغني 7/564 : اتفق أهل العلم على وجوب نفقات الزوجات على أزواجهن إذا كانوا بالغين إلا الناشز منهن ذكره ابن المنذر وغيره .
و قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في الفتح 9/498 : النفقة على الأهل واجبة بالإجماع ، وإنما سماها الشارع صدقة خشية أن يظنوا أن قيامهم بالواجب لا أجر لهم فيه.
متى تجب التفقة على الزوج ؟
بالنسبة للمدونة فقد اقترحت في تعديلاتها أن النفقة تجب على الرجل بمجرد العقد ، و نقاشي لهذا التعديل سيكون من جهات ثلاث :
الجهة الأولى :
من حيث تأصبل المسألة ، فأقول مستعينا بالله تعالى :
ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن النفقة لا تجب على الزوج بمجرد عقد الزواج، بل بشرط أن تسلم الزوجة نفسها إلى الزوج وتمكنه من الاستمتاع بها.
فإذا سلمت المرأة نفسها وأتاحت لزوجها التمتع بها، وجبت النفقة عليها. وكذلك إذا كان التأخير في الدخول بسبب الزوج، كأن تكون الزوجة قد بذلت نفسها أو وافقت على التمكين، لكنه أخر الدخول لأي سبب كان، فإن النفقة تجب عليه.
جاء في «الموسوعة الفقهية الكويتية»: لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ إِلَاّ بِالتَّمْكِينِ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ، وَهُوَ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: الْمَالِكِيَّةُ، وَالْحَنَابِلَةُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَهُوَ قَوْل الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ. اهــ.
قال الحطاب المالكي: “قال في كتاب النكاح الثاني من المدونة:ولا يلزم من لم يدخل نفقةٌ حتى يُبتغى ذلك منه، ويُدعى للبناء، فحينئذ تلزمه النفقة والصداق انتهى. قال أبو الحسن الصغير:قوله: ”يُبتغى منه”أي يُدعى إلى البناء، وظاهره أن النفقة لا تلزم حتى يُدعى إليها…وفي الرسالة: ولا نفقةَ للزوجة حتى يدخل بها أو يُدعى إلى الدخول وهي ممن يوطأ مثلها. وقال ابن الحاجب: تجب بالدخول أو بأن يُبتغى منه الدخول” (مواهب الجليل لشرح مختصر خليل 5/542).
وقال ابن قدامة المقدسي: “وجملة الأمر أن المرأة إذا سلَّمت نفسها إلى الزوج، على الوجه الواجب عليها،ف لها عليه جميع حاجتها; من مأكول، ومشروب، وملبوس، ومسكن” (المغني 9/231).
الجهة الثانية :
هذا القول الذي اقترحته المدونة هو مذهب الحنفية و هو مذهب مرجوح كما تبين مما سبق ، زد على ذالك بأن الذي تصرح به المؤسسات الدينية الرسمية أن مذهب المالكية هو المذهب الذي ينبغي الأخذ به في تنظيم شؤون البلاد ، و لا شك أن هذا القول مخالف تماما لما عليه المالكية في هذه المسألة ، و هذا يؤكد لنا بأن حال البلاد تسير الى أن يكون مذهب المالكية في بلادنا كعنقى مغرب و الله المستعان .
الجهة الثالثة :
في بلادنا، استقر العرف على أن الزوجة ووليّها لا يطالبان الزوج بالنفقة ما دامت الزوجة ل تنتقل بعد إلى بيت الزوجية. ومع ذلك، نجد أن العرف المغربي يشمل تعاونًا متبادلًا في تحمّل تكاليف الزفاف، حيث يُعرف في العديد من المناطق بما يسمى “الذبيحة”، وهو تقليد متوارث بين المغاربة منذ القدم دون خلاف يذكر.
لكن إصدار قانون يُلزم الزوج بالإنفاق على الزوجة أثناء وجودها في بيت والدها قد يؤدي إلى نزاعات كبيرة، سواء بين الزوجين أو بين الزوج وولي الزوجة، خاصة أن العرف المحلي في بعض المناطق يتضمن بقاء الزوجة في بيت والدها لأشهر حتى يتم تجهيز بيت الزوجية وتأثيثه.
وبما أن العرف السائد لا يخالف الشريعة الإسلامية، وقد اعتاده الناس دون نزاع، فلا حاجة لتغييره إلى ما قد يسبب مشقة أو يضيق على حياة الناس. فالاحتكام إلى الأعراف التي لا تتعارض مع الشرع أيسر وأقرب إلى المصلحة العامة. والله المستعان.